[تنشر هذه المادة ضمن ملف خاص حول التناول السردي للحرب والعنف في سوريا. للإطلاع على جميع مواد الملف اضغط/ي هنا]
الروائية السورية ابتسام تريسي
ليس من السهل أن تعيش الحدث وتكون شاهدًا محايدًا وتكتب بمنطق من يرى من بعيد متخلّصًا من أحاسيسك المتناقضة ورأيك الذي كوّنَته المشاهد والأحداث.
في الروايات الثلاث التي كتبتها عن الحرب والصراعات الدائرة في سوريا ما بين عامي 2011 و 2015 وهي على التوالي "مدن اليمام"، "لمار"، "لعنة الكادميوم". كنت شاهدة على الحدث من داخله. لا شكّ أنّي لجأت إلى لعبة فنية في كلّ رواية أخرجتني من الحدث وجعلتني أرويه على لسان شخصيات روائية بحتة، لكنّي عشت معظم ما كتبته بتفاصيله الدقيقة أنا ومجموعة الشخصيات المشاركة في الحدث. في الرواية الأولى عشت تجربة الاحتلال لمدن الشمال وتجارب الاعتقال لثلاثة شباب منهم ابني، وتجربة الحصار والقتل والقصف. وفي الرواية الثالثة كنت شاهدة عيان على حادثة اختطاف الناشطتين الإيطاليتين (فانيسيا مارزولو، وغريتا راميلي)
اللتين دخلتا سوريا من معبر باب الهوا بمعيتي على أنّهما ابنتاي. لكنّي لم أتورط أبدًا في سرد الأحداث كتجربة شخصية، فأنا أعي تمامًا أنّي أكتب عملًا روائيًا له شروطه الفنية التي تختلف عن كتابة التاريخ والسيرة الذاتية، على الرغم من توثيقي لبعض الأحداث كما جاءت على لسان أصحابها ومنها تجارب الاعتقال. لذا؛ أستطيع القول إنّ الكتابة عن مجريات الصراع في سوريا لا تحتاج إلى انتظار الزمن المناسب حتّى تنتهي ونراها من بعيد، فالمتعارف عليه أنّ الروائي يمتلك مقدرة التحليل والرؤيا والكشف والتنبؤ أحيانًا، وهذا يدعم مقدرته على الكتابة في ظروف الحرب نفسها، والكتابة في رأيي أثناء وقوع الحدث قد لا تمتلك الرؤيا الواضحة الشاملة لمجمل ما يحدث لكنّها تملك المصداقية الكاملة في نقل الحدث بتفاصيله، والتركيز على جزئيات قد يمحوها الزمن المطلوب للكتابة الشاملة والواضحة. وإن لم يبقَ هؤلاء الذين عاشوا الحدث على قيد الحياة حتّى ذلك الزمن، فسيكتبه أناس يرونه بالمجمل من بعيد لكنّهم لم يعيشوه كما ينبغي، وستكون كتاباتهم مكمّلة وداعمة لما كُتب أثناء الحرب.
يرى بعض الكتّاب أنّه لا تجوز الكتابة وطوفان الدم يجتاح البلاد، القول لم يكن مقنعًا لي ككاتبة، فأنا أقاوم الهزيمة والانكسار والقهر بالكتابة، فلو أنّي حقّقت توازنًا على الصعيد الشخصي فهذا بحدّ ذاته إنجاز يحسب للعمل الذي أقوم به. العمل الذي يفرض نفسه وشروطه غالبًا ولا يترك لي حرية الاختيار.. فرواية "مدن اليمام" على سبيل المثال كتبت في أماكن عدة (حلب، أريحا، دمشق، واستنبول، والكويت، وأنطاكية)، وقد فرض المكان شروطه مع شروط النزوح والشتات التي عشتها أثناء كتابة الرواية. وهذا ما جعلني أعيد كتابة العمل أكثر من مرة وأغيّر من أحداثه وأحذف مئات الصفحات، لأنّ الأحداث أيضًا بتصاعدها وتطورها فرضت شروطًا أخرى أثناء كتابة العمل. فالعمارة الروائية أيضًا تتعرّض للهدم وإعادة البناء بما يتماشى مع الأحداث!
الرواية الثالثة "لعنة الكادميوم" لم تخضع لتلك الشروط والظروف فقد كانت الرؤيا فيها واضحة منذ بداية العمل حتّى نهايته وقامت على فكرة جاهزة في ذهني وهيكل متكامل لم أضطر معه إلى تغيير أي جزئية بعد الانتهاء من الكتابة.. ربّما يكون الزمن هنا قد لعب دورًا فهي تتحدث عن سيطرة تنظيم داعش الإرهابي على الشمال بين عامي 2014 و2015.
بالتأكيد لن ترقى الكتابة لمستوى الدم والدمار والوحشية التي عومل بها الشعب السوري من النظام الحاكم، وما أكمله على يد داعش فيما بعد. لكن يبقى للروائي شرف المحاولة، محاولة مواكبة الحدث والكتابة عنه قبل أن يجفّ دم الشهداء. وفي هذا تحدٍّ كبير للنظريات القائلة بموت العمل الذي يكتب من داخل الحدث، وتبقى الكتابة في مثل هذه الظروف مغامرة كبيرة يقع فيها الرهان على وعي الأجيال القادمة من أطفال اليوم الذين عاشوا المأساة بكل تفاصيلها لكنّهم غير قادرين على التعبير عنها.
هناك رابط خفي بين الكتابة الإبداعيّة عن الواقع والحريّة، لأنّ الكتابة في حدّ ذاتها فعلٌ حرّ يرقى إلى مستوى المواجهة بين السلطة والمبدع. تلك المواجهة التي قد تؤدي إلى اعتقاله أو تصفيته كما حدث أثناء الثورة لعدد من الكتاب والفنانين في سجون النظام السوري. لكنّ الحريّة - حريّة الإبداع - غير مشروطة بالكتابة عن الواقع والمساهمة في تغييره، فكلّ كتابة تحتاج للحريّة حتّى لو كانت تعبيرًا عن مشكلة خاصة أو معاناة مرضيّة نفسيّة.
لا شكّ أنّ للثورة تأثيرها الكبير والمباشر على فعل الكتابة الحر، فما قبلها ليس كما بعدها، فلو أعدت مثلًا كتابة روايتي "عين الشمس" التي نشرت عام 2009، لن أكتبها بالطريقة نفسها، فقد كان في رأسي رقيب طيلة الوقت ينبهني إلى عدم ذكر حدث ما أو التخفيف والتحايل في رواية حدث آخر خوفًا من منع الرواية التي لم أطبعها في سوريا، لأنّ ذلك كان مستحيلًا في حينه.
يبقى ما يجري في سوريا من صراعات تسيّرها دول عظمى وأخرى عربية بعيدة كل البعد عن ملامح الحرب الطائفية الأهلية التي حاول النظام السوري دفع الثورة السورية باتجاهها بكلّ قوته وحيله في إيجاد منظمات إرهابية على أرض سوريا تبرر وجوده أمام العالم كمحارب للإرهاب. الطائفية موجودة في أذهان الطائفيين وتصرفاتهم وأقول ذلك بيقين من خلال معرفتي الدقيقة ومعايشتي للأحداث في الشمال السوري.
*************
ابتسام التريسي في سطور:
كاتبة وروائية من مواليد مدينة أريحا/ محافظة إدلب بالشمال السوري عام 1959.
خريجة كلية الآداب قسم اللغة العربية، حلب.
انصبّ اهتمامها الروائي والحكائي والبحثي في البيئة الإجتماعية السورية، وطبيعة تكوين المجتمع السوري والأسرة السورية بمحورها الأساسي المرأة من خلال القصص التي كتبتها ونشرت في ثلاث مجموعات ("جذور ميتة" – 2001، و"نساء بلا هديل" - 2007، "امرأة في المحاق" - 2014)، وكذلك اهتمامها بالإنسان السوري وما يعانيه في مواجهة التحديات من حوله داخل البيئة السورية وخارجها من خلال تسع روايات مطبوعة، ومقالات نشرت في عدد من الصحف العربية والمجلات.
وتركز "التريسي" في رواياتها على الجوانب التاريخية والإجتماعية للبيئة السورية وخصوصًا في المنطقة الشمالية، وتشكّل رواياتها وثيقة تاريخية مهمة لهذه المنطقة منذ بدء الإحتلال الفرنسي لسوريا، مرورًا بالوحدة والنكسة وأحداث الثمانينات في بلادها.. وانتهاءًا بمشروع روائي عن الثورة السورية، أنهت منه "مدن اليمام"، "لمار،" "لعنة الكادميوم". وتعالج الروايات الثلاث المشاكل السياسية والإجتماعية بقالب روائي وبحثي خاص.
انسحبت ابتسام تريسي من اتحاد الكتاب العرب في كانون الأول/ ديسمبر 2012 احتجاجًا على صمته إزاء الأحداث في سوريا. وهي حاليًا عضو في رابطة الكتاب السوريين التي تأسست بعد الثورة. وعضو في هيئة تحرير مجلتها "أوراق".
صدر لها من الروايات:
- «جبل السماق»، (الجزء الأول) سوق الحدادين، دار فصلت، سوريا 2004.
- «ذاكرة الرماد»، دار الحوار، اللاذقية 2006.
- «جبل السماق .. الخروج إلى التيه»، ( الجزء الثاني) ـ دار العوام ، دمشق 2007. نالت الجائزة الأولى لمسابقة المزرعة ـ
- «المعراج»، دار العوام، دمشق 2008.
- «عين الشمس»، الدار العربية للعلوم ، بيروت 2009. ووصلت للقائمة الطويلة للبوكر 2010
- «غواية الماء»، الدار العربية للعلوم، بيروت 2011.
- «مدن اليمام»، الدار المصرية اللبنانية، القاهرة 2014.
- «لمار»، الدار المصرية اللبنانية، القاهرة 2015.
- «لعنة الكادميوم»، دار روايات، الشارقة 2016.